الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وعلى الأول فإن لم يكن له ثخن كان سطحًا رقيقًا كما مر، وإن كان له ثخن فالمماس مغاير لغير المماس ويلزم تركيبه، وإن كان مباينًا ببعد متناهٍ فلا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى أن يماسه ويعدو الإلزام المذكور، وإن كان مباينًا ببعد غير متناهٍ لزم أن يكون غير المتناهي محصورًا بين الحاصرين، ولقائل أن يقول: المباينة والمماسة من خواص الأجسام وإنه تعالى نور مجرد محض فلا يصلح عليه الاتصال والانفصال والتماس والتباين والتداخل وأشباه ذلك. ومنها أن الاستقراء قد دل على أن الجرمية كلما كانت أقوى كانت الفاعلية والتأثير أضعف وبالعكس، ولهذا كان تأثير الأرض أقل من تأثير الماء، وتأثير الماء من تأثير الهواء، وتأثير الهواء من تأثير النار بالإحراق والطبخ، وتأثير النار من تأثير الأفلاك المؤثرة في العنصريات. ثم إنه لا قدرة ولا قوة أشد من قدرة الواجب لذاته فيكون بريئًا من الحجم والجرم والكثافة والرزانة. قلت: في الاستقراء نزاع إنه صحيح أولًا، ولكن لا نزاع في أن واجب الوجود تعالى شأنه بريء عن الحجمية والكثافة وعن كل شيء يقدح في قيوميته. وهاهنا حجج قد أوردت في أوائل سورة الأنعام في تفسير قوله سبحانه: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 18] وقد عرفت ما عليها فهذه حجج عقلية عول عليها الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه في تفسيره الكبير، وقد أوردنا عليها ما كانت ترد من المنوع والاعتراضات لا اعتقادًا للتشبيه والتجسم أو تقليدًا لأولئك الأقوام بل تشحيذًا للذهن وتقريبًا إلى المعارف والحقائق وجذبًا بضبع المتأمل في المضايق والمزالق فليختر المنصف ما أراد والله الموفق للرشاد. ولعل هذا المقام مما لا يكشف المقال عنه غير الخيال والله أعلم بحقيقة الحال. ثم قال رضي الله عنه: وأما الدلائل السمعية فكثيرة منها قوله تعالى: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] والأحد مبالغة في كونه واحدًا والذي يمتلئ منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركبًا من أجزاء فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحدًا. وأجيب بأنه ذات واحدة حصلت في كل الأحياز دفعة واحدة، وزيف بأن هذا معلوم الفساد بالضرورة لو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال جميع العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة الأحياز فظن أنه أشياء كثيرة. قلت: وهذه مغالطة فإن هذا الجزء الذي لا يتجزأ لصغره غير الشيء الذي لا يقبل التجزئة والأنقسام لذاته. وأيضًا المتحيز الذي مقداره ذراع في ذراع لا يشغل بالبديهة حيزين كل منهما ذراع في ذراع فلزم منه أن لا يشغل ذينك الحيزين متحيز مقداره. ضعف ذلك على أن الحق ما عرفت مرارًا أن نور الأنوار قيوم في ذاته حاصل في جميع الأشياء لا منفصل عنها انفصال المحيط عن المحاط، ولا متصل بها اتصال العرض الساري في الأجسام، ولهذا لا يلزمه بانقسامها الانقسام.ومنها قوله: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية} [الحاقة: 17] ويلزم منه أن يكون حامل العرش حاملًا للإله. والجواب أنك إن سميت المعية حملًا فلا نزاع. ومنها قوله: {والله الغني} [محمد: 38] فوجب أن يكون غير مفتقر إلى المكان والجهة، والجواب أن الاستصحاب غير الافتقار. ومنها أن فرعون طلب حقيقة الإله في قوله: {وما رب العالمين} [الشعراء: 23] ولم يزد موسى على ذكر الأوصاف. وأما فرعون فقد طلب الإله في السماء في قوله: {فاطلع إلى إله موسى} [القصص: 38] فعلمنا أن التنزية دين موسى ووصفه بالمكان والحيز دين فرعون. والجواب لا نزاع في أن حقيقة ذاته كما هي لا يعلمها إلا هو والبسائط المحضة لا تعرف إلا بلوازم، وطلب فرعون إنما كان مذمومًا لأنه تصور أن يكون الإله شخصًا مثله على تقدير وجوده لقوله: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38]. ومنها هذه الآية لأنها تدل على أنه استقر على العرش بعد تخليق السموات والأرض وكان قبل ذلك مضطربًا. والجوب المراد بالاستقرار أنه كان ولم يكن معه شيء فإذا خلق ما خلق من عالم الأجسام والأختلاط بقي ما وراءه نورًا محضًا. ومنها قصة إبراهيم وتبرئه من الآفلين ولو كان جسمًا لكان آفلًا في أفق الإمكان. والجواب أن نور الأنوار أجل من ذلك ولا يلزم من كونه مع جميع الأحياز ومع ما سواها أن يكون في مرتبة الأجسام بل النفوس والعقول. ومنها أن أول الآية أعني قوله: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض} يدل على قدرته وحكمته وكذا قوله: {يغشي الليل النهار} إلى آخر الآية. فلو كان المراد من الاستواء هو الاستقرار كان أجنبيًا عما قبله وعما بعده لأنه ليس من صفات المدح إذ لو استقر عليه بق وبعوض صدق عليه أنه استقر على العرش. فإذن المراد بالاستواء كمال قدرته في تدبير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها. والجواب أن الاستقرار بالتفسير الذي ذكرناه أدل شيء على المدح والثناء، وحديث البق والبعوض خراف وهل هو إلا كقول القائل: لو كان واجب الوجود بقًا أو بعوضًا صدق عليه أنه إله فلا يكون الإله دالًا على المدح. ومنها أنه سبحانه حكم في آيات كثيرة بأنه خالق السموات فلو كان فوق العرش كان سماء لساكني العرش لأن السماء عبارة عن كل ما علا وسما، ومن هنا قد يسمى السحاب سماء فيلزم أن يكون خالقًا لنفسه. والجواب بعد تسليم أن كل ما سما وارتفع فهو سماء من غير اعتبار أنه نور أو جسم، أن ذاته سبحانه مخصوصة بدليل منفصل كقوله: {الله خلق كل شيء} [الرعد: 16] هذا ولغير الموسومين بالمجسمة والمشبهة في الآية قولان: الأول القطع بكونه متعاليًا عن المكان والجهة ثم الوقوف عن تأويل الآية وتفويض علمها إلى الله، والثاني الخوض في التأويل وذلك من وجوه:أحدها تفسير العرش بالملك والاستواء بالاستعلاء أي استعلى على الملك.وثانيها: أن {استوى} بمعنى استولى كقول الشاعر:
وثالثها ذكر القفال أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك. يقال: استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه إذا استقام له أمره واطرد. وفي ضدّه خلا عرشه أي انتقض ملكه وفسد. فالله تعالى دلّ على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم بالوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم لتستقر عظمة الله تعالى في قلوبهم إلا أن ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال: إنه عالم فهموا منه أنه تعالى لا يخفى عليه شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة أو روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال: قادر. علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم عرفوا أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدّة والفكرة والروية، وكذا القول في كل من صفاته. وإذا أخبر أن له بيتًا يجب على عباده حجه فهموا منه أنه نصب موضعًا يقصدونه لمآربهم وحوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكنًا لنفسه ولم ينتفع به لدفع الحر والبرد. وإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا أنه لا يفرح بذلك التحميد والتمجيد ولا يحزن بتركه والإعراض عنه. وإذا أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش فهموا منه أنه بعد أن خلقهما استوى على عرش الملك والجلال. ومعنى التراخي أنه يظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلقها لأن تأثير الفاعل لا يظهر إلا في القابل. وقال أبو مسلم: العرش لغة هو البناء والعارش الباني قال تعالى: {ومن الشجر ومما يعرشون} [النحل: 68] فالمراد أنه بعد أن خلقها قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها.قوله سبحانه: {يغشي الليل النهار} قال صاحب الكشاف: يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل يحتملهما اللفظ جميعًا. وقال القفال: لما أخبر بالاستواء على العرش وأن أمر المخلوقات منوط بتدبيره ومشيئته أراهم ذلك عيانًا فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر. وقدم ذكر الليل والنهار لما في تعاقبهما من المنافع الجليلة فبهما تتم أمور الحياة، ثم وصف الحركة التي يحصلان منها بالسرعة والشدةّ فقال: {يطلبه حثيثًا} قال الليث: الحث الإعجال وذلك أن حركة الفلك الأعظم أشدّ الحركات سرعة حتى إنها في مقدار ما تقول واحد واحد واحد يتحرك ألفًا وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخًا من مقعر فلكه والله أعلم بتحرك محدبه.فإن قيل: ما محل الجملتين؟ قلت: أما الأولى فمستأنفة كأنه قيل: فماذا يفعل بعد خلق السموات والأرض؟ فأجيب يغشي الليل النهار. وعلى قول من يفسر الاستواء بالتدبير والتصرف يحتمل أن تكون هذه الجملة مبينة. وأما الثانية ففي محل النصب على الحال من الملحق كما أن {حثيثًا} منصوب على الحال من الطالب وهو الملحق بعينه. ثم قال: {والشمس والقمر والنجوم مسخّرات} من قرأهن منصوبات فمعناه وخلق هذه الأجرام حال كونهن تحت تسخيره، ومن قرأها مرفوعات فعلى الابتداء والخبر، وكلتا القراءتين حسنة لأنك إذا قلت: ضربت زيدًا استقام أن يقال زيد مضروب. وقوله: {بأمره} متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره. قال في الكشاف: سمي ذلك أمرًا على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك. ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الذي هو الكلام، وعلى هذا لا يبعد أن يكون {بأمره} متعلقًا ب {خلق}. بدأ بالشمس لأنه سلطان الكواكب، وثنى بالقمر لأنه كالنائب، وثلث بسائر النجوم لأنها كالخدم. فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، والشمس تأثيرها بالتسخين، والقمر تأثيره بالترطيب، وتوليد المواليد الثلاثة المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة. ثم إنه سبحانه وتعالى خص كل كوكب بخاصية عجيبة وتأثير غريب لا يعلمه بتمامه إلا مبدعه وخالقه، واعلم أن الأجسام متماثلة في الجسمية؛ فاختصاص جرم الشمس بالنور الباهر والتسخين الشديد والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي وكذا تخصيص كل واحد من سائر السيارات والثوابت بقوّة أخرى لابد أن يستند إلى فاعل حكيم قدير عليم فلهذا قال: {مسخرات بأمره}. وأيضًا إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيرًا خاصًا من المغرب إلى المشرق، وسيرًا آخر سريعًا بسبب حركة الفلك الأعظم، فقوله: {يغشي الليل النهار} تنبيه على أن حدوث الليل والنهار إنما هو بحركة الفلك الأعظم المسمى بالعرش، وقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} إشارة إلى أن العرش يحرك جميع الأفلاك والكواكب وأنه سبحانه أودع في جرمه قوّة قاهرة قاسرة باعتبارها قويت على تحريك من دونه على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب. وأيضًا أن أقسام الأجسام ثلاثة: متحرك إلى الوسط وهما العنصران الثقيلان، ومتحرك عن الوسط وهما الخفيفان، ومتحرك على الوسط وهي الأجرام الفلكية، فيكون الأفلاك والكواكب متحركة بالاستدارة لا إلى المركز ولا عن المركز لا يكون إلا بتسخير الله تعالى، ولأمر ما أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية تبدل الضياء بالظلام وبالعكس، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وأمر بالنظر في ملكوت السماء والغبراء وبالتفكر فيهما قائلًا: {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} [الأعراف: 185] {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها} [ق: 6] {أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [الروم: 8] وإن من صنف كتابًا شريفًا مشتملًا على دقائق العلوم العقلية والنقلية فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان: منهم من اعتقد كونه كذلك على الإجمال، ومنهم من وقف على دقائقها على سبيل التفصيل والكمال، ولا ريب أن اعتقاد الفريق الثاني يكون أكمل وأقوى إذا ثبت هذا فنقول: من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث حصل له بهذا الطريق إثبات الصانع، أما الذي ضم إلى هذه المعرفة البحث عن أحوال هذا العالم العلوي والعالم السفلي على التفصيل الممكن لا يزال ينتقل من برهان إلى برهان ومن دليل إلى دليل فإن يقينه يتزايد وبصيرته تتكامل إلى أن يصير علمًا مقعولًا مضاهيًا لما عليه الموجود، ولمثل هذه الفوائد والأغراض والغايات أنزل هذا الكتاب الكريم لا لتكثير وجوه الإعراب والاشتقاقات المؤدية إلى الإطناب والإسهاب، وأما قوله عز من قائل: {ألا له الخلق والأمر} فالخلق عبارة عن التقدير ويختص بكل ما هو جسم وجسماني لأنه خص بمقدار معين، فكل ما كان بريئًا عن الحجم والمقدار فهو من عالم الأرواح وعالم الأمر لأنه أوجد بأمر كن من غير سبق مادّة ومدّة، فعالم الخلق في تسخيره وعالم الأمر في تدبيره واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره. وهاهنا مسائل ذكرها العلماء: الأولى أنه تعالى متكلم آمر ناهٍ مخبر مستخبر لأن قوله: {ألا له الخلق والأمر} دل على أن له الأمر فوجب أن يكون له النهي وسائر أنواع الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفرق. الثانية لا خالق إلا هو لأن قوله: {ألا له الخلق} بتقديم الخبر يفيد الحصر. ولو سلم أنه لا يفيده فلا أقل من إفادة أنه خالق بعض الأشياء، وحينئذٍ يثبت المطلوب لأن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان مفهوم واحد في الممكنات وإنه علة للحاجة إلى موجود معين، فجميع الممكنات محتاجة إلى ذلك المعين فالذي يكون مؤثرًا في وجود شيء واحد يجب أن يكون هو المؤثر في جميع الممكنات ولا يحتاج إلى الممكنات. الثالثة قالت الأشاعرة: كل أثر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي فخالق ذلك الأثر في الحقيقة هو الله تعالى لقوله: {ألا له الخلق والأمر} ويتفرع على هذا أنه لا إله إلا الله وإلا كان الثاني مدبرًا وخالقًا، وأنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم، وأن القول بالطبائع والعقول والنفوس على ما يزعم الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل، وأن خالق أعمال العباد هو الله تعالى والقول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل، كل ذلك لئلا يلزم خالق ومؤثر غير الله تعالى.
|